من هو المتعالم؟ ما هو السّبب الباطن للتّعالم؟ من أعظم التّعالم؟ كيف نناقش متعالمًا؟
قَالَ صاحب سيدنا رسول الله ﷺ سيدنا جَابِرٍ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ، فَمَاتَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ. اهـ. رواه أبو داود وغيره
شرح ألفاظ الحديث:
«خَرَجْنا في سَفَرٍ، فأصاب رَجُلًا منّا حَجَرٌ، فشَجَّه»، أي: جَرَحه «في رأسِه، ثُمَّ احْتَلَمَ»، أي: نَزَل مِنه المَنِيُّ في حالِ نَومِه، فأصابَتْه جَنابَةٌ، «فسَأَل أصحابَه»، أي: بعضَ الَّذِينَ كانوا معه في السَّفَرِ، فقال الرجلُ: «هل تَجِدون لي رُخصةً في التيمُّم؟»، أي: هل لي أن أتيَمَّمَ لِجُرحِي دونَ غَسْلٍ؟ «فقالوا: ما نَجِدُ لك رُخصةً»، أي: لا نَجِدُ لك عُذرًا للتيمُّمِ «وأنتَ تَقدِرُ على الماءِ»، والمعنى: أنَّهم فَرَضوا عليه الغُسلَ؛ «فاغْتَسَل» الرَّجُلُ «فمات، فلمّا قَدِمنا على النَّبيِّ ﷺ أُخبِر بذلك»، أي: بقِصَّة الرَّجُلِ، فقال النَّبِيُّ ﷺ: «قَتَلوه»، أي: الَّذِينَ أَوْجَبوا على صاحبِهم الغُسلَ، قتَلوه حين أفتوه بجهل وبدونَ عِلم بأن يغسل موضع الجرح، فأسند القتل إليهم؛ لأنهم تسببوا له، بتكليفهم له باستعمال الماء مع وجود الجرح في رأسه، ليكون أدل على الإنكار عليهم. «قَتَلهم الله!» أي لعنهم، كقوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ. أي لُعِنَ الإنسان وهذا دُعَاء عَلَيْهِمْ للزَّجرِ والتَّهدِيد لهم، وأنهم استحقوا الدعاء عليهم جزاء ما تسببوا فيه من موت الرجل. قال الإمام ابن القيم: فدعا عليهم لما أفتوا بغير علم. «أَلا سألوا إذ لم يَعْلَموا؟!»، أي: ألا طَلَبوا العِلمَ فيما لا يعرِفونه؛ فإن الجهل داء شديد، وشفاؤه السؤال والتعلم من العلماء، وكل جاهل لم يستحِ عن التعلم، وتَعَلَّم يجدُ شفاء دائه، ويصير الجاهل بالتعلم عالمًا، ومن استحى عن التعلم لا يبرأُ أبدًا من دائِهِ. وفيه حض على السؤال عند الجهل، فلم لم يسألوا حين جهلوا الحكم. «فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤالُ»، أي: أن الجهل داء، شفاؤه السؤال والتعلم.
📷 من هو المتعالم ؟
و(التّعالم ) هو = خوض ( العلوم ) قبل اكتمال ( الآلة ) وحصول الأهليّة التامّة فيها ، فالمتعالم يخوض في العلم ويذكر نتائج يستنتجها بنفسه من دون أهليّة أو ينقلها عن أهلها من دون آلة فهم صحيح، وقد لا يدّعي في شيء من ذلك أنّه عالم! لكنّ العبرة هي بحقيقة فعله ، وحقيقة ما يفعله : قفْوُه ما ليس له به علم وبناؤه تلك الأقوال على غير أسس متكاملة ، فيكون نتيجة ذلك = فساد البناء الذي يبنيه أو سقوطه فتكثر الأقوال الباطلة والبدع والشّذوذات والفساد.
والفساد المترتّب على (التّعالم ) يكون في بعض العلوم أشدّ وأخطر منه في بعض، كالتّعالم في مجال الكهرباء أو في علم الطبّ هو أخطر من مثله في سائر العلوم الدّنيويّة، وأخطر من ذلك كلّه التّعالم في (علوم الدّين) لأنّ الدّين هو الغاية، وعلوم الدّنيا هي وسائل ، والغاية = جنّة أو نار، فالخطأ في تلك الغاية أشنع وأضلّ سبيلا، ولذا جاء في "الصّحيحين" عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ) ، وهذا يبيّن بدعة الضّلال التي هي خروجٌ متيقَّنٌ أو قريبٌ من المتيَقَّن عن إجماعات العلماء قليل صدورها من عالم متأهّل لصحّة آلته ، وكثير صدورها من المتعالمين بل هم مظنّتها لعدم أهليّتهم ، لإنّ (التّعالم ) في الدّين هو = سبب كلّ شذوذ وبناء فاسد منسوب إليه؛ وهي البدع التي منها مكفّرة كالشّرك، فإنّ أصل الشّرك وسبب وجوده هو هذا التّعالم (( وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون )) ، قال ابن القيم رحمه الله في " إعلام الموقعين " (1/38) : " وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء ، وجعله من أعظم المحرمات ، بل جعله في المرتبة العليا منها فقال تعالى : (( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )) [الأعراف/33] . قال : فرتب المحرّمات أربع مراتب :
وبدأ بأسهلها وهو الفواحش .
ثم ثَنَّى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم .
ثم ثَلَّث بما هو أعظم تحريما منها وهو الشرك به سبحانه .
ثم ربَّع ما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم ، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه " انتهى.
ووجه كون ( التّعالم ) فوق الشّرك هو أنّه سببه وسبب كلّ بدعة وتحريف للدّين؛ إذ السّبب الجامع لكلٍّ بدعة وضلالة في الفهم هو القول على الله بغير آلة العلم ، وإلاّ فإنّ أعظم بدعة في نفسها هي = الشّرك في نفسه؛ فهو من جهة أخرى فوق الجميع لأنّ جميع البدع مضرّة بمصلحة الدّين محرّفة لصورته الصّحيحة لكن الشّرك متعلّق بأعظم حقوق الله وأعظم الأبواب في دينه، وهو = توحيده تعالى في ربوبيّته وألوهيّته فذلك هو غاية الغايات، ويلي ذلك بدعة الإرجاء لأنّها مفضية للانسلاح من العمل بالدّين وذريعة لوقوع الكفر والفسوق والعصيان، وأعظم البدع من حيث تعلّقها بحقوق العباد هي بدعة الخوارج لأنّها مع إخلالها بمصلحة الدّين ـ كسائر البدع ـ هي أيضًا مهدرة لما وصّى الله به في جميع الشّرائع من الكلّيات الأخرى الكبرى كحفظ النّفس والعرض والمال التي هي من أعظم حقوق العباد ...
والبدع عمومًا فيها أيضا نوع شرك وكبر يصلُ إلى الكفر ـ وهذا لمَن نوى بذلك أن يشين الدّين أو يُحرّفه كما قال تعالى : (( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )) . فإن لم ينو ذلك فهو آثم على كلّ حال ، ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله (10 / 449) : " من تكلم في الدين بلا علم كان كاذبًا، وإن كان لا يتعمد الكذب... وقد قال أبوبكر وابن مسعود وغيرهما من الصحابة ـ فيما يفتون فيه باجتهادهم : "إن يكن صوابًا فمن اللّه، وإن يكن خطأ فهو مني ومن الشيطان، واللّه ورسوله بريئان منه. فإذا كان خطأ المجتهد المغفور له هو من الشيطان، فكيف بمن تكلم بلا اجتهاد يبيح له الكلام في الدين؟ فهذا خطؤه أيضًا من الشيطان، مع أنه يعاقب عليه إذا لم يتب، والمجتهد خطؤه من الشيطان وهو مغفور له، كما أن الاحتلام والنسيان وغير ذلك من الشيطان وهو مغفور له بخلاف من تكلم بلا اجتهاد يبيح له ذلك، فهذا كاذب آثم في ذلك ... " انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله : "ومما يدلّ أيضا على أنه من كبائر الإثم قول الله تعالى : (( وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) [النحل/116-117] ، فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه ، وقولهم لما لم يحرمه : هذا حرام ، ولما لم يحله : هذا حلال ، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه وتعالى أحله وحرمه " انتهى.
فصار الذّي يتكلّم في مسائل الاجتهاد تصويبًا وتخطئةً نوعان :
ـ عالم : يتكلّم في صناعته ؛ فهذا يُؤجر على كلّ حال ولو أخطأ لما تقدّم في الحديث الصّحيح أنّه "إذا حكم فاجتهد ثم أخطأ ؛ فله أجر " .
ـ وجاهل : يخوض فيما لا يُحسنه ؛ فهذا يأثم على كلّ حال ولو أصاب كما جاء عنه صلى الله عليه وسلّم أيضًا أنّه قال : " من قال في القرآن برأيه فأصاب ؛ فقد أخطأ " .
وأكبر شبهة لدى هؤلاء هي أنّنا مأمورون باتّباع الدّليل والدّوران معه كما قال تعالى : (( اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء )) ...
وجواب هذه الشّبهة أنّ هذا الفهم لهذه الآية ونحوها هو نفسه من سوء الفهم عن الله ورسوله أيضًا؛ إذ الّذي أمر الله به من اتّباع الدّليل والدّوران معه هو دوران العالم معه بالاستنباط والاجتهاد ، وأمّا دوران العامّي مع الدّليل فإنّما يكون بسؤال العالم وتقليده لا باستنباطه هو واجتهاده فإنّه لا يُحسن الاجتهاد والاستنباط ، وهو إذا قلّد العالم فإنّما يقلّد في الحقيقة دليله ويدور معه وليس يقلّد ذات العالم، وعذره في عدم معرفة عين الدّليل أو الدّلالة هو عدم معرفته بطرق الاستدلال والاستنباط لتشعّبها وقصوره عن رتبة يمكنه معها أن يستنبط بنفسه ، ولذا : يجوز له تقليد من يثق أنّ له أدلّة على ما يقول وأصولا وهو العالم القادر على الاستنباط ، ولذا قالوا : عليه بتقليد من يثق في علمه مع ثقته في دينه، بل يجب عليه ذلك.
وأمّا المتعالمون فلسان حالهم = ادّعاء التّسوية بين العالم والعاميّ ، فتلك هي حقيقة جميع أهل البدع ، وربّما نطقوا بتلك التّسوية أصلا فقالوا : " هم رجال ونحن رجال "، وإنّما قال أبو حنيفة : " هم رجال ونحن رجال " في قوم من أقرانه من التّابعين وهو عالم مثلهم وفي طبقتهم فحقّ له أن يقول ذلك ، بخلاف من يقوله أو يدّعيه وهو لم يتأهّل فإنّه يقع في= الكبر والتّعالم ، ويبتدع نتائج يظنّها الصّواب مهما خالف فيها إجماع العلماء، وهذا كحال غلاة التّكفير في هذه العصور حيث قالوا : ( جهالنا أعلم بالتوحيد من علمائكم )!
وجواب هذا أنّ العلم بتفاصيل التّوحيد ومناطات الشّرك يحتاج علما يقصر عنه العوامّ، يبيّن ذلك أنّ الخوارج الأوّلين كانوا من جملة الموحّدين، لكنّهم غلوا في ( باب التّوحيد ) بسبب مباشر هو جهلهم بدقائق العلم ومناطات التّوحيد والشّرك، والسّبب قبل ذلك هو إهدارهم مكانة العلماء من الصّحابة وغيرهم ممّن كان ينبغي أن يتواضعوا لهم ويتعلّموا منهم ذلك وغيره، وكان نتيجة السّببين بلوغهم غاية الجهل بتسوية أولئك العلماء من أصحاب رسول الله وسائر المسلمين بالكفّار والمشركين، ومن ثَمّ استحلّوا دماءهم محتجّين عليهم بالمجملات؛ فكان ممّا استدلّوا به على عليّ رضي الله عنه وغيره قوله تعالى : ( إن الحكم إلا لله )، وقوله سبحانه : ( لئن أشركت ليحبطنّ عملك ) ...
ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديماً وحديثاً، وأصل كل خلاف في الأصول والفروع. ثم قال ابن القيم : وهل أوقع القدرية -النفاة منهم والجبرية- والمرجئة والخوارج والمعتزلة والروافض وسائر طوائف أهل البدع فيما وقعوا فيه إلا سوء الفهم عن الله ورسوله؟!
وأمّا أهل السنّة فيتحرّرون حقيقة فهم السّلف وذلك باتّخاذهم أسباب التّعلّم الصّحيحة وإتيانهم بيوت العلم من أبوابها ، وأوّل ذلك تعظيمهم للعلماء ومعرفتهم بمكانة السّلف دون تعصّب لأفرادهم ، وهذا كما قال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله : ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال !
ولهذا فالّذي يعرفه العامّيّ بنفسه هو الأمور الظّاهرة كالشّهادتين وأركان الإيمان ووجوب الصّلاة والصّوم وإباحة الزّواج والبيع وتحريم الزّنى والرّبا ونحو ذلك ، وأمّا الجزئيّات والتّفاصيل فهي ممّا يحصل أن تشتبه عليه بل ذلك هو الغالب من أحوال العوامّ ، بخلاف العالم الذي له منظار دقيق للتّمييز بين المتشابهات، ولهذا قال تعالى في ما تشابه : (( وما يعلم تأويله إلا الله والرّاسخون في العلم )) وقال النّبيّ ﷺ : " الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس" ...
وهذا كما في ظنّهم بعض العقود التي تدخل في الرّبا المحرّم داخلةً في البيع الحلال والعكس ، وكما يرون بعض أنواع الشّرك الأكبر = ليس يشرك ، أو العكس فيرَوا بعض أنواع الشّرك الأصغر أو ما ليس بشرك أصلًا = شركًا أكبر، وهذا كما صنع الخوارج في قضيّة قبول عليّ وعلماء الصّحابة رضي الله عنهم للتّحكيم ، فإنّ مَن خرجوا عليهم فعلوا ذلك لجهلهم بمناط الشّرك إذ رأَوا كلّ تحاكم لغير الله = شركًا بلا تفصيل، وذلك من فقدهم لآلة العلم ومنظاره الدّقيق بما يعصم من ذلك الجهل ويبيّن التّفريق، وكذا هو صنيعهم في التّخليط بين الكفر والمعاصي وظنّهم أنّ الجميع = كفرٌ ، فإنّما كان لذلك منهم لمحلّ التّشابه الذي بدا لهم بين الأمرين؛ إذ الكفر والمعصية كلاهما ممّا يُعارض الإيمان ويُنافي الانقياد لله تعالى بالطّاعة، لكنّ هؤلاء لم يفرّفوا بين ما ينافي كمال الانقياد ويُنقصه وبين ما يُنافي أصله ويَنقضُه ، فالتبس عليهم أحد الأمرين بالآخر خاصّةً مع استعمالهم الظواهر وتمسّكهم بالإطلاقات الواردة في كثير من نصوص الوعيد الّتي لا يتبيّن معها لكثير من النّاس التّفصيل، وكذا المرجئيّ هو ممّن يأخذ بظواهر نصوص الوعد متعلّقًا بالإطلاق الذي في كثير منها فيشتبه عليه الأمر لجهله المخلّ سيّما إذا اقترن بذلك هوى مضلّ، وهذا :
ـ كما في حال استحبابه الشّهوات وما ألفى عليه الآباء والجدّات، فذلك ممّا يمدّه في بدعته حتّى يرى مخالفه صاحب غلوّ وتشديد كما يرى كثير من النّاس في هدا العصر من يعفي لحيته ومن تغطّي وجهها عن الأجانب = غلاةً، مع أنّ من بين هؤلاء ـ فعلًا ـ غلاة ، لكنّ أولئك أو كثيرٌ منهم يحكمون بالظّواهر ـ وهي ههنا اللّباس والهيئة الظّاهرة أصلًا !! ـ ولا يُفرّقون لأنّهم لا يعرفون ضابط التّفريق، وبعضهم لأنّه لا يريد أن يُفرّق أصلًا لما يغلب عليه من الهوى والشّهوات ...
ـ وهذا أيضًا كما في حال غيرة الخارجيّ على حكم الله، فإنّ ذلك إذا زيد عليه فقدٌ لمقياس العلم الذي يُفرَّق به بين أحوال تضييع حكم الله في حكم الله !! لا يجعله يُفرِّق فيفتري على الله !! بل ربّما تراكم ـ مضافًا إلى تلك الغيرة العمياء ـ جهله ؛ فرأى من يفرّق ذلك التّفريق مدافعًا عن الكفّار !! وكذا يرى سائر من يفرّق بين !!حال العصيان وحال الكفر = مدافعًا عن الكفر !! فيُكفّرهم !!
ومثال آخر أذكره : فيمن لا يُفرّق بين الجهتين القدرية التّكوينيّة ، والشّرعية التّكليفيّة ، كمنكري أقدار الله ممّن يزعم أنّ إثبات القدر يقتضي إثبات الظّلم لله لأنّ من أقدار الله معاصيَ وكفرًا، وكغلاة الإثبات الذين يثبون أقدار الله مع نفيهم إرادة الإنسان وسلبها عنه بالكلّيّة بما هو معه عندهم كالرّيشة في مهبّ الرّيح !! لأنّ إثبات إرادة العبد مع إرادة الله يقتضي عندهم = شركًا ، فالأوّلون هم القائلون بأنّ الإنسان مخيّر بلا تفصيل ، والآخرون هم القائلون بأنّه مسيّر بلا تفصيل !! وكلّ ذلك لعدم التّفريق بين ما أراده الله من الجهة الشّرعيّة ممّا يحبّه ويرضاه وبين ما أراده من الجهة الكونيّة فقط ممّا لا يستلزم حبّه له ولا رضاه به إلّا إرادة قدريّة لحكمة بالغة يعلمها ...
وقريب من ذلك : مثال من تشتبه عليه نصوص البلاء وفضل الأذيّة في سبيل الله وأجر الصّابرين على ذلك ودرجات الشّهداء ونحو ذلك فيرى الحقّ دائرًا مع أولئك مهما بيّن ميزان العلم الدّقيق ومنظاره أخطاءهم وبدعهم ونحو ذلك ، فهذا لا يُفرّق بين تينك الجهتين أيضًا وإلّا فكيف يجعل البلاء والأذى والغربة ونحو ذلك معان مرادةً لذاتها مطلوبًا تحرّيها لنفسها ؟! والحال أنّما هي من أقدار الله وأوامره الكونيّة التي لم يؤمر المكلّف بالسّعي في تحصيلها من الجهة الشّرعيّة التّكليفيّة ، وقد لخّص النّبيّ ﷺ هذا المعنى في قوله : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا " متّفق عليه، فبيّن أنّ المأمور به من الجهة الشّرعيّة هو الصّبر على البلاء عند حلوله لا السّعي في طلب أسبابه طلبًا ذاتيًّا مهما كان الحال ، لكن من العوامّ من تشتبه عليه إحدى الجهتين بالأخرى فلا يعلم التّفصيل ، بل هو قبل ذلك لا يعلم فصل ما بين البلاء والعقاب أيضًا فيظنّ كلّ أذًى = محمودًا ، وقد قال الله عزّ وجل: ((أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [ آل عمران :165 ]...
وأمثلة أخرى : فيمن لا يفرّق بين التّواضع المحمود وبين الذلّة المذمومة ، أو بين النّهي عن الغلظة والفظاظة وبين الأمر بالشدّة في موضعها ، فإنّ للشدّة موضعًا حسنًا يتبيّن بمنظار العلم ، وهكذا عدم التّفريق بين الانتصار العدل وبين الإساءة في القول ، وبين الإقدام على العمل المعهود مع دفع الرّياء وبين الانقطاع عن العمل خوف الرّياء أو خوفًا من أن يُقال مراء ؛ فذلك هو الرّياء !! أو بين تعريف العالم بعلمه مع محافظته على الإخلاص وبين عجبه وريائه وكبره ...
بل الأمثلة في هذا الباب لا تُحصر واستقصاؤها بل عشرها بل عشر معشارها متعذّر ، لكن يقرّب وصف العاميّ في جميعها مثال أختم به وهو كونه = صاحب نظّارة بهيمة (1) أو شاشة قديمة ؛ فهو لا يرى بهما إلّا لونين : أسود أو أبيض ، إمّا خير محض وإمّا شرّ صرف، ولا درجات ، إمّا طاعة وإمّا كفر ، ولا دركات ، إمّا تحصيل الخير الآن (2) وإمّا التّفريط فيه إلى آخر الأبد ، لا مرحليّة ولا تدرّج ولا تتبّع لأسباب الفرج ، إمّا التّواضع إلى حدّ المسكنة وإمّا أن يرى ترك ذلك = كبر ، ولا يفرّق ، إمّا يريد الله المعصية من كلّ وجه وإمّا لا يقدّرها ، ولا تفصيل ولا يُفصّل ... (3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البهيمة أي المظلمة .
(2) فهو في ذلك كالصّبيّ ، ولهذا قال ابْنِ قُدَامَةَ المَقْدِسِيِّ رحمه الله في "روضة النَّاظر" (ص 136) : (وَلأَنَّ العَامِّيَّ ليْسَ لَهُ آلَةُ هذَا الشَّأْنِ، فهو كالصَّبِيِّ في نُقْصَانِ الآلَةِ).
(3) ولهذا قال ابن الجوزي رحمه الله في "صيد الخاطر" ص486 .: ( فأقلّ موجود في الناس = الفهم والغوص في دقائق المعاني).
س / ما هو السّبب الباطن لظاهرة التّعالم ؟
ج / أوّل العلم = معرفة المرء بنفسه؛ فـ " من عرف نفسه فقد عرف ربّه " كما جاء في الأثر (1)، وهذا هو حال من يتأمّل في نفسه؛ فإنّه يتعرّف بذلك على عجزه، ومن ثمّ على قدرة خالقه لما يرى من آثار تلك القدرة في نفسه، وكذا هو يتعرّف على ضعفه وجهله وفقره بمعرفته بقوّة مولاه وعلمه وغناه، فمبدأ الأمر = التّأمّل بخضوع، أو الخضوع للتّأمّل، وأوّل العلم هو = التّواضع ، ومبدأ الجهل هو = الكبر؛ وهذا كما اعترض إبليس فقال : (( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )) مع أنّه لا يجهل في نفسه جهله وكون الله هو أحكم الحاكمين لكنّه يتناسى ذلك لكبره وغلبة هواه ويجحد الحال لحسده وعدم رضاه، فتولّدت لديه بذلك فروع من الجهل كجهله بأنّ آدم خير منه من وجوه يعلمها الله ويجهلها هو، فتجاهله للأصل هو الّذي أوقعه في مجادلته في الفروع بعدما تبيّنت واستيقنتها نفسه، وهذا الّذي صدر منه هو ضدّ صنيع الملائكة لمّا جهلوا فرعًا وهو سرّ استخلاف الله لآدم في الأرض وذلك لمّا قال تعالى : (( إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ))، فكونهم يسبّحون الله ويقدّسون لا يفتُرون ولا يسأمون = أمر صحيح، لكن أقوى منه وأبلغ = كونه تعالى يعلم ما لا يعلمون أيضًا فإنّه = أمرٌ ضروريّ لا يمكن لأحد دفعه عن نفسه لما يعلمه من نقصه هو وكمال الرّبّ ، وجهله هو وعلم الرّبّ، إلّا من يُكابر فيعترض، والملائكة إنّما سألوا ذلك السّؤال على وجه الاسترشاد والاستعلام فهو كسؤال الخليل الّذي قال الله له إثره : (( أولم تؤمن؟ قل بلى ولكن ليطمئنّ قلبي )) فأراه الله من تفاصيل العلم ما لم يكن يعلمه، وكذا فعلت الملائكة لمّا استفهموا خاضعين فأراهم ربّهم فضل علم آدم على علمهم ومن ثَمّ صلاحيّته لعمارة الأرض دونهم؛ وذلك لمّا (( قالوا سبحانك لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنّك أنت العلميم الحكيم : قال يا آدم أنبئهم ... )) فانكشف لهم بذلك سرّ من أسرار الفروع لتواضعهم لما يعلمونه في قرارة أنفسهم من أصل الأصول وهو علمهم بعلم الله وكماله وعلمهم بجهلهم ونقصهم.
وأمّا بنو آدم فمنهم من يسلك في العلم طريق الملائكة ، (( ولكنّ أكثرهم لا يعلمون )) فيسلكون المسلك الأوّل وهو المسلك الّذي سنّه إبليس أوّلا فهو الآن يزيّنه لبني آدم فيستجيب له أكثرهم والعياذ بالله، إذ لولا الكبر لما تعالم أحد ولردّ الجميع العلم إلى عالمه ولكان التّواضع رادّا لأصحابه عن مسلك الكبر فمبصّرًا لهم برتبة أنفسهم في كلّ أمر ومن ذلك مرتبتهم في العلم أو الجهل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا لا أصل له روايةً لكنّه صحيح درايةً، قال النووي في فتاويه : معناه من عرف نفسه بالضعف والافتقار الى الله والعبودية له ، عرف ربه بالقوة والربوبية والكمال المطلق والصفات العلى .
من أعظم التّعالم = تقييم النّاس تقييمًا علميّا مع فقد المعايير العلميّة الّتي بها يُقيّم النّاس علميًا ! فتجد شرّ المتعالمين يدّعي أنّ هذا عالم وهذا ليس بعالم وهذا عالم متكبّر وهذا متواضع وهذا من أهل السّنّة وهذا من أهل البدعة ... إلخ ، دون أن يكون عارفًا بالحقائق الشّرعيّة الدّقيقة لمعنى العلم والجهل والكبر والتّواضع والسّنّة والبدعة ... إلخ، ومن وقع في النّقد والتّقييم بغير علم مجزئ فهو يدّعي ـ فوق ذلك ـ أنّه هو نفسه = عالم أو هو أصلا أعلم من العلماء محلّ تقييمه ـ شعر بذلك أو لم يشعر؛ وذا لأنّه لا يمكن نقد الشّخص علميّا إلّا ممّن هو مثله أو فوقه في العلم أصوليّا، وهو كما يُسند المعلّم للمتعلّم والأستاذ للتّلميذ عددًا لغاية تقييمه فيُعتَدّ بذلك العدد والتّقييم لصدوره من أهله وتعلّقه بمن هم دون أهله ولا يُعتدّ بالعكس كما لو أسند التّلميذ لعلْم الأستاذ عددًا أو نقده بنفسه لأنّ غاية نقد التّلميذ للأستاذ والطّالب للعالم أن يكون على وجه التّقريب والتّخمين لا على وجه يستعمل فيه قواعد الأساتذة ومعايير المعلّمين وأصول أهل الذّكر وعلم الّذين يعلمون ما لا يعلمه المتعلّمون وأسس مَن يدرس التّلاميذ من أجل الوصول إلى رتبتهم العلميّة أصلا! فكيف يمكنهم منذ الآن التّقييم بل التّقييم المقلوب !؟ وإنّما غاية تقيييم التّلاميذ ورأيهم الّذي يُبدونه بأنفسهم أن يكتفوا به في خاصّة أنفسهم دون نشر له ولا تأكيد؛ وهذا كما يكتفي القُصّر بآرائهم الخاصّة في خاصّة أنفسهم ولا يدعون إليها ولا يفرضونها على غيرهم كيف إذا كان الغير = المعلّمين أنفسهم !؟ إذن لانقلبت الموازين وقبلها تعمّ الفوضى العلميّة ويُتحاكم للجهل ويتفاحش التّخليط، لكنّ المتعالم لا يشعر بشيء من ذلك فيجهل ويُكابر ويتناقض فهو يتّهم السّنّّي بالبدعة والكفر ويرمي العالم بالجهل والكبر كلّ ذلك كبرًا وزورًا وهو ـ قبل ذلك ـ يبّرؤ ذاته وينسى نفسه المغرورة !
كيف نناقش متعالمًا ؟
لا تناقشه، ولا تسترسل معه في الكلام في مسألته، وإنّما تبيّن له الأصل وتوضّح له أمّ المسائل وهي = وجوب التّعلّم قبل الخوض فيها وفي غيرها، وذلك أنّك لو استرسلتَ معه فحتّى لو أفحمتَه في تلك المسألة ولم تردّه إلى الأصل فسيبقى متعالمًا في مسائل أخرى خائضًا بغير علم فيما لا ينتهي، هذا إن كنت من العلماء القادرين على الإفحام أصلًا، وإلّا فالأصل أنّك لن تقدر على إفحامه حتّى في مسألته تلك، بل ستقع بردّك عليه في التّعالم أيضًا فتسقط فيما تنعاه عليه ...
يبيّن هذا : أنّ العامّي إذا خاض في مسألة من مسائل الدّين، هو يخوض فيها بغير علم؛ لأنّه ليس ذا أدوات مجزئة تؤهّله للكلام فيها وفي غيرها من المسائل، وإنّما هي فهوم خاصّة يفهمها أو آراء ينقلها عن غيره، وكلا الفهم والنّقل يحتاجان لآلات وأدوات، ولذا يصير العامّيّ الآخر الّذي يخوض معه في تلك المسألة أو في غيرها متعالمًا ولو كان مخالفًا له في نتيجتها ، لأنّ العبرة بالأصول لا بذات النّتائج ، وهو كصاحبه فاقد للأصول ولآلات الاسنتاج بنفسه والاستدلال، فلا يمكنه إذن الرّدّ إلّا بفهم لا يملك آلته أيضًا وإلّا بالنّقل من هنا وهناك.
فبان أنّ الّذي ينبغي للعامّي صاحب الجهل البسيط في ردّه على المتعالم صاحب الجهل المركّب إذن هو = أن يردّه إلى الأصل وما تندرج تحته جميع المسائل بصحّة وانتظام وهو = أمره إيّاه أن يتكلّم في الدّين بأدوات مجزئة تؤهّله للكلام في تلك المسائل وفي غيرها أو أن يمسك عن الكلام في مثل تلك المسائل حتّى يتأهّل لئلّا يقول قبل ذلك على الله ما ليس له به علم ، وأنّ الّذي عليهما هو = تقليد كلّ منهما لمن يثق فيه في خاصّة نفسه دون إلزام بقوله ولا إنكار إلّا في المسائل الظّاهرة الّتي لا يختلف فيها اثنان،؛ ذلك أنّ العامّيّ إنّما يعلم الأمور الظّاهرة كوجوب الصّلاة والصّوم وتحريم الرّبا والخمر ونحو ذلك؛ فيجوز له الكلام في هذه الأمور لأنّ كلّ المسلمين علماء بها، فهم إذا خاضوا فيها فإنّما يخوضون فيها بـ ( علم )؛ لأنّها = أمور معلومة ضرورةَ ولا يسع المسلمين جهلها، وأمّا الأمور الخفيّة الّتي ليست معلومة بالضّرورة وإنّما تُعلم بالنّظر والاستدلال فهذه لا يجوز أن يخوض فيها إلّا أهل النّظر وأصحاب آلة الاستدلال وهم = العلماء، وأمّا سواهم ومن هم دونهم من العوامّ والطّلبة فلهم أن يتكلّموا في هذه على وجه السّؤال والبحث لا على وجه التّخطئة والتّصويب، وإلّا وقعوا في القول على الله بغير علم، ومن ثَمّ في الكذب عليه تعالى لأنّهم يبنون أقوالهم على المصادفة والمحاولة بغير آلة اسنتاج صحيح واجتهاد واستدلال.
قَالَ صاحب سيدنا رسول الله ﷺ سيدنا جَابِرٍ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ، فَمَاتَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ. اهـ. رواه أبو داود وغيره
شرح ألفاظ الحديث:
«خَرَجْنا في سَفَرٍ، فأصاب رَجُلًا منّا حَجَرٌ، فشَجَّه»، أي: جَرَحه «في رأسِه، ثُمَّ احْتَلَمَ»، أي: نَزَل مِنه المَنِيُّ في حالِ نَومِه، فأصابَتْه جَنابَةٌ، «فسَأَل أصحابَه»، أي: بعضَ الَّذِينَ كانوا معه في السَّفَرِ، فقال الرجلُ: «هل تَجِدون لي رُخصةً في التيمُّم؟»، أي: هل لي أن أتيَمَّمَ لِجُرحِي دونَ غَسْلٍ؟ «فقالوا: ما نَجِدُ لك رُخصةً»، أي: لا نَجِدُ لك عُذرًا للتيمُّمِ «وأنتَ تَقدِرُ على الماءِ»، والمعنى: أنَّهم فَرَضوا عليه الغُسلَ؛ «فاغْتَسَل» الرَّجُلُ «فمات، فلمّا قَدِمنا على النَّبيِّ ﷺ أُخبِر بذلك»، أي: بقِصَّة الرَّجُلِ، فقال النَّبِيُّ ﷺ: «قَتَلوه»، أي: الَّذِينَ أَوْجَبوا على صاحبِهم الغُسلَ، قتَلوه حين أفتوه بجهل وبدونَ عِلم بأن يغسل موضع الجرح، فأسند القتل إليهم؛ لأنهم تسببوا له، بتكليفهم له باستعمال الماء مع وجود الجرح في رأسه، ليكون أدل على الإنكار عليهم. «قَتَلهم الله!» أي لعنهم، كقوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ. أي لُعِنَ الإنسان وهذا دُعَاء عَلَيْهِمْ للزَّجرِ والتَّهدِيد لهم، وأنهم استحقوا الدعاء عليهم جزاء ما تسببوا فيه من موت الرجل. قال الإمام ابن القيم: فدعا عليهم لما أفتوا بغير علم. «أَلا سألوا إذ لم يَعْلَموا؟!»، أي: ألا طَلَبوا العِلمَ فيما لا يعرِفونه؛ فإن الجهل داء شديد، وشفاؤه السؤال والتعلم من العلماء، وكل جاهل لم يستحِ عن التعلم، وتَعَلَّم يجدُ شفاء دائه، ويصير الجاهل بالتعلم عالمًا، ومن استحى عن التعلم لا يبرأُ أبدًا من دائِهِ. وفيه حض على السؤال عند الجهل، فلم لم يسألوا حين جهلوا الحكم. «فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤالُ»، أي: أن الجهل داء، شفاؤه السؤال والتعلم.
📷 من هو المتعالم ؟
و(التّعالم ) هو = خوض ( العلوم ) قبل اكتمال ( الآلة ) وحصول الأهليّة التامّة فيها ، فالمتعالم يخوض في العلم ويذكر نتائج يستنتجها بنفسه من دون أهليّة أو ينقلها عن أهلها من دون آلة فهم صحيح، وقد لا يدّعي في شيء من ذلك أنّه عالم! لكنّ العبرة هي بحقيقة فعله ، وحقيقة ما يفعله : قفْوُه ما ليس له به علم وبناؤه تلك الأقوال على غير أسس متكاملة ، فيكون نتيجة ذلك = فساد البناء الذي يبنيه أو سقوطه فتكثر الأقوال الباطلة والبدع والشّذوذات والفساد.
والفساد المترتّب على (التّعالم ) يكون في بعض العلوم أشدّ وأخطر منه في بعض، كالتّعالم في مجال الكهرباء أو في علم الطبّ هو أخطر من مثله في سائر العلوم الدّنيويّة، وأخطر من ذلك كلّه التّعالم في (علوم الدّين) لأنّ الدّين هو الغاية، وعلوم الدّنيا هي وسائل ، والغاية = جنّة أو نار، فالخطأ في تلك الغاية أشنع وأضلّ سبيلا، ولذا جاء في "الصّحيحين" عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ) ، وهذا يبيّن بدعة الضّلال التي هي خروجٌ متيقَّنٌ أو قريبٌ من المتيَقَّن عن إجماعات العلماء قليل صدورها من عالم متأهّل لصحّة آلته ، وكثير صدورها من المتعالمين بل هم مظنّتها لعدم أهليّتهم ، لإنّ (التّعالم ) في الدّين هو = سبب كلّ شذوذ وبناء فاسد منسوب إليه؛ وهي البدع التي منها مكفّرة كالشّرك، فإنّ أصل الشّرك وسبب وجوده هو هذا التّعالم (( وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون )) ، قال ابن القيم رحمه الله في " إعلام الموقعين " (1/38) : " وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء ، وجعله من أعظم المحرمات ، بل جعله في المرتبة العليا منها فقال تعالى : (( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )) [الأعراف/33] . قال : فرتب المحرّمات أربع مراتب :
وبدأ بأسهلها وهو الفواحش .
ثم ثَنَّى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم .
ثم ثَلَّث بما هو أعظم تحريما منها وهو الشرك به سبحانه .
ثم ربَّع ما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم ، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه " انتهى.
ووجه كون ( التّعالم ) فوق الشّرك هو أنّه سببه وسبب كلّ بدعة وتحريف للدّين؛ إذ السّبب الجامع لكلٍّ بدعة وضلالة في الفهم هو القول على الله بغير آلة العلم ، وإلاّ فإنّ أعظم بدعة في نفسها هي = الشّرك في نفسه؛ فهو من جهة أخرى فوق الجميع لأنّ جميع البدع مضرّة بمصلحة الدّين محرّفة لصورته الصّحيحة لكن الشّرك متعلّق بأعظم حقوق الله وأعظم الأبواب في دينه، وهو = توحيده تعالى في ربوبيّته وألوهيّته فذلك هو غاية الغايات، ويلي ذلك بدعة الإرجاء لأنّها مفضية للانسلاح من العمل بالدّين وذريعة لوقوع الكفر والفسوق والعصيان، وأعظم البدع من حيث تعلّقها بحقوق العباد هي بدعة الخوارج لأنّها مع إخلالها بمصلحة الدّين ـ كسائر البدع ـ هي أيضًا مهدرة لما وصّى الله به في جميع الشّرائع من الكلّيات الأخرى الكبرى كحفظ النّفس والعرض والمال التي هي من أعظم حقوق العباد ...
والبدع عمومًا فيها أيضا نوع شرك وكبر يصلُ إلى الكفر ـ وهذا لمَن نوى بذلك أن يشين الدّين أو يُحرّفه كما قال تعالى : (( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )) . فإن لم ينو ذلك فهو آثم على كلّ حال ، ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله (10 / 449) : " من تكلم في الدين بلا علم كان كاذبًا، وإن كان لا يتعمد الكذب... وقد قال أبوبكر وابن مسعود وغيرهما من الصحابة ـ فيما يفتون فيه باجتهادهم : "إن يكن صوابًا فمن اللّه، وإن يكن خطأ فهو مني ومن الشيطان، واللّه ورسوله بريئان منه. فإذا كان خطأ المجتهد المغفور له هو من الشيطان، فكيف بمن تكلم بلا اجتهاد يبيح له الكلام في الدين؟ فهذا خطؤه أيضًا من الشيطان، مع أنه يعاقب عليه إذا لم يتب، والمجتهد خطؤه من الشيطان وهو مغفور له، كما أن الاحتلام والنسيان وغير ذلك من الشيطان وهو مغفور له بخلاف من تكلم بلا اجتهاد يبيح له ذلك، فهذا كاذب آثم في ذلك ... " انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله : "ومما يدلّ أيضا على أنه من كبائر الإثم قول الله تعالى : (( وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) [النحل/116-117] ، فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه ، وقولهم لما لم يحرمه : هذا حرام ، ولما لم يحله : هذا حلال ، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه وتعالى أحله وحرمه " انتهى.
فصار الذّي يتكلّم في مسائل الاجتهاد تصويبًا وتخطئةً نوعان :
ـ عالم : يتكلّم في صناعته ؛ فهذا يُؤجر على كلّ حال ولو أخطأ لما تقدّم في الحديث الصّحيح أنّه "إذا حكم فاجتهد ثم أخطأ ؛ فله أجر " .
ـ وجاهل : يخوض فيما لا يُحسنه ؛ فهذا يأثم على كلّ حال ولو أصاب كما جاء عنه صلى الله عليه وسلّم أيضًا أنّه قال : " من قال في القرآن برأيه فأصاب ؛ فقد أخطأ " .
وأكبر شبهة لدى هؤلاء هي أنّنا مأمورون باتّباع الدّليل والدّوران معه كما قال تعالى : (( اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء )) ...
وجواب هذه الشّبهة أنّ هذا الفهم لهذه الآية ونحوها هو نفسه من سوء الفهم عن الله ورسوله أيضًا؛ إذ الّذي أمر الله به من اتّباع الدّليل والدّوران معه هو دوران العالم معه بالاستنباط والاجتهاد ، وأمّا دوران العامّي مع الدّليل فإنّما يكون بسؤال العالم وتقليده لا باستنباطه هو واجتهاده فإنّه لا يُحسن الاجتهاد والاستنباط ، وهو إذا قلّد العالم فإنّما يقلّد في الحقيقة دليله ويدور معه وليس يقلّد ذات العالم، وعذره في عدم معرفة عين الدّليل أو الدّلالة هو عدم معرفته بطرق الاستدلال والاستنباط لتشعّبها وقصوره عن رتبة يمكنه معها أن يستنبط بنفسه ، ولذا : يجوز له تقليد من يثق أنّ له أدلّة على ما يقول وأصولا وهو العالم القادر على الاستنباط ، ولذا قالوا : عليه بتقليد من يثق في علمه مع ثقته في دينه، بل يجب عليه ذلك.
وأمّا المتعالمون فلسان حالهم = ادّعاء التّسوية بين العالم والعاميّ ، فتلك هي حقيقة جميع أهل البدع ، وربّما نطقوا بتلك التّسوية أصلا فقالوا : " هم رجال ونحن رجال "، وإنّما قال أبو حنيفة : " هم رجال ونحن رجال " في قوم من أقرانه من التّابعين وهو عالم مثلهم وفي طبقتهم فحقّ له أن يقول ذلك ، بخلاف من يقوله أو يدّعيه وهو لم يتأهّل فإنّه يقع في= الكبر والتّعالم ، ويبتدع نتائج يظنّها الصّواب مهما خالف فيها إجماع العلماء، وهذا كحال غلاة التّكفير في هذه العصور حيث قالوا : ( جهالنا أعلم بالتوحيد من علمائكم )!
وجواب هذا أنّ العلم بتفاصيل التّوحيد ومناطات الشّرك يحتاج علما يقصر عنه العوامّ، يبيّن ذلك أنّ الخوارج الأوّلين كانوا من جملة الموحّدين، لكنّهم غلوا في ( باب التّوحيد ) بسبب مباشر هو جهلهم بدقائق العلم ومناطات التّوحيد والشّرك، والسّبب قبل ذلك هو إهدارهم مكانة العلماء من الصّحابة وغيرهم ممّن كان ينبغي أن يتواضعوا لهم ويتعلّموا منهم ذلك وغيره، وكان نتيجة السّببين بلوغهم غاية الجهل بتسوية أولئك العلماء من أصحاب رسول الله وسائر المسلمين بالكفّار والمشركين، ومن ثَمّ استحلّوا دماءهم محتجّين عليهم بالمجملات؛ فكان ممّا استدلّوا به على عليّ رضي الله عنه وغيره قوله تعالى : ( إن الحكم إلا لله )، وقوله سبحانه : ( لئن أشركت ليحبطنّ عملك ) ...
ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديماً وحديثاً، وأصل كل خلاف في الأصول والفروع. ثم قال ابن القيم : وهل أوقع القدرية -النفاة منهم والجبرية- والمرجئة والخوارج والمعتزلة والروافض وسائر طوائف أهل البدع فيما وقعوا فيه إلا سوء الفهم عن الله ورسوله؟!
وأمّا أهل السنّة فيتحرّرون حقيقة فهم السّلف وذلك باتّخاذهم أسباب التّعلّم الصّحيحة وإتيانهم بيوت العلم من أبوابها ، وأوّل ذلك تعظيمهم للعلماء ومعرفتهم بمكانة السّلف دون تعصّب لأفرادهم ، وهذا كما قال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله : ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال !
ولهذا فالّذي يعرفه العامّيّ بنفسه هو الأمور الظّاهرة كالشّهادتين وأركان الإيمان ووجوب الصّلاة والصّوم وإباحة الزّواج والبيع وتحريم الزّنى والرّبا ونحو ذلك ، وأمّا الجزئيّات والتّفاصيل فهي ممّا يحصل أن تشتبه عليه بل ذلك هو الغالب من أحوال العوامّ ، بخلاف العالم الذي له منظار دقيق للتّمييز بين المتشابهات، ولهذا قال تعالى في ما تشابه : (( وما يعلم تأويله إلا الله والرّاسخون في العلم )) وقال النّبيّ ﷺ : " الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس" ...
وهذا كما في ظنّهم بعض العقود التي تدخل في الرّبا المحرّم داخلةً في البيع الحلال والعكس ، وكما يرون بعض أنواع الشّرك الأكبر = ليس يشرك ، أو العكس فيرَوا بعض أنواع الشّرك الأصغر أو ما ليس بشرك أصلًا = شركًا أكبر، وهذا كما صنع الخوارج في قضيّة قبول عليّ وعلماء الصّحابة رضي الله عنهم للتّحكيم ، فإنّ مَن خرجوا عليهم فعلوا ذلك لجهلهم بمناط الشّرك إذ رأَوا كلّ تحاكم لغير الله = شركًا بلا تفصيل، وذلك من فقدهم لآلة العلم ومنظاره الدّقيق بما يعصم من ذلك الجهل ويبيّن التّفريق، وكذا هو صنيعهم في التّخليط بين الكفر والمعاصي وظنّهم أنّ الجميع = كفرٌ ، فإنّما كان لذلك منهم لمحلّ التّشابه الذي بدا لهم بين الأمرين؛ إذ الكفر والمعصية كلاهما ممّا يُعارض الإيمان ويُنافي الانقياد لله تعالى بالطّاعة، لكنّ هؤلاء لم يفرّفوا بين ما ينافي كمال الانقياد ويُنقصه وبين ما يُنافي أصله ويَنقضُه ، فالتبس عليهم أحد الأمرين بالآخر خاصّةً مع استعمالهم الظواهر وتمسّكهم بالإطلاقات الواردة في كثير من نصوص الوعيد الّتي لا يتبيّن معها لكثير من النّاس التّفصيل، وكذا المرجئيّ هو ممّن يأخذ بظواهر نصوص الوعد متعلّقًا بالإطلاق الذي في كثير منها فيشتبه عليه الأمر لجهله المخلّ سيّما إذا اقترن بذلك هوى مضلّ، وهذا :
ـ كما في حال استحبابه الشّهوات وما ألفى عليه الآباء والجدّات، فذلك ممّا يمدّه في بدعته حتّى يرى مخالفه صاحب غلوّ وتشديد كما يرى كثير من النّاس في هدا العصر من يعفي لحيته ومن تغطّي وجهها عن الأجانب = غلاةً، مع أنّ من بين هؤلاء ـ فعلًا ـ غلاة ، لكنّ أولئك أو كثيرٌ منهم يحكمون بالظّواهر ـ وهي ههنا اللّباس والهيئة الظّاهرة أصلًا !! ـ ولا يُفرّقون لأنّهم لا يعرفون ضابط التّفريق، وبعضهم لأنّه لا يريد أن يُفرّق أصلًا لما يغلب عليه من الهوى والشّهوات ...
ـ وهذا أيضًا كما في حال غيرة الخارجيّ على حكم الله، فإنّ ذلك إذا زيد عليه فقدٌ لمقياس العلم الذي يُفرَّق به بين أحوال تضييع حكم الله في حكم الله !! لا يجعله يُفرِّق فيفتري على الله !! بل ربّما تراكم ـ مضافًا إلى تلك الغيرة العمياء ـ جهله ؛ فرأى من يفرّق ذلك التّفريق مدافعًا عن الكفّار !! وكذا يرى سائر من يفرّق بين !!حال العصيان وحال الكفر = مدافعًا عن الكفر !! فيُكفّرهم !!
ومثال آخر أذكره : فيمن لا يُفرّق بين الجهتين القدرية التّكوينيّة ، والشّرعية التّكليفيّة ، كمنكري أقدار الله ممّن يزعم أنّ إثبات القدر يقتضي إثبات الظّلم لله لأنّ من أقدار الله معاصيَ وكفرًا، وكغلاة الإثبات الذين يثبون أقدار الله مع نفيهم إرادة الإنسان وسلبها عنه بالكلّيّة بما هو معه عندهم كالرّيشة في مهبّ الرّيح !! لأنّ إثبات إرادة العبد مع إرادة الله يقتضي عندهم = شركًا ، فالأوّلون هم القائلون بأنّ الإنسان مخيّر بلا تفصيل ، والآخرون هم القائلون بأنّه مسيّر بلا تفصيل !! وكلّ ذلك لعدم التّفريق بين ما أراده الله من الجهة الشّرعيّة ممّا يحبّه ويرضاه وبين ما أراده من الجهة الكونيّة فقط ممّا لا يستلزم حبّه له ولا رضاه به إلّا إرادة قدريّة لحكمة بالغة يعلمها ...
وقريب من ذلك : مثال من تشتبه عليه نصوص البلاء وفضل الأذيّة في سبيل الله وأجر الصّابرين على ذلك ودرجات الشّهداء ونحو ذلك فيرى الحقّ دائرًا مع أولئك مهما بيّن ميزان العلم الدّقيق ومنظاره أخطاءهم وبدعهم ونحو ذلك ، فهذا لا يُفرّق بين تينك الجهتين أيضًا وإلّا فكيف يجعل البلاء والأذى والغربة ونحو ذلك معان مرادةً لذاتها مطلوبًا تحرّيها لنفسها ؟! والحال أنّما هي من أقدار الله وأوامره الكونيّة التي لم يؤمر المكلّف بالسّعي في تحصيلها من الجهة الشّرعيّة التّكليفيّة ، وقد لخّص النّبيّ ﷺ هذا المعنى في قوله : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا " متّفق عليه، فبيّن أنّ المأمور به من الجهة الشّرعيّة هو الصّبر على البلاء عند حلوله لا السّعي في طلب أسبابه طلبًا ذاتيًّا مهما كان الحال ، لكن من العوامّ من تشتبه عليه إحدى الجهتين بالأخرى فلا يعلم التّفصيل ، بل هو قبل ذلك لا يعلم فصل ما بين البلاء والعقاب أيضًا فيظنّ كلّ أذًى = محمودًا ، وقد قال الله عزّ وجل: ((أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [ آل عمران :165 ]...
وأمثلة أخرى : فيمن لا يفرّق بين التّواضع المحمود وبين الذلّة المذمومة ، أو بين النّهي عن الغلظة والفظاظة وبين الأمر بالشدّة في موضعها ، فإنّ للشدّة موضعًا حسنًا يتبيّن بمنظار العلم ، وهكذا عدم التّفريق بين الانتصار العدل وبين الإساءة في القول ، وبين الإقدام على العمل المعهود مع دفع الرّياء وبين الانقطاع عن العمل خوف الرّياء أو خوفًا من أن يُقال مراء ؛ فذلك هو الرّياء !! أو بين تعريف العالم بعلمه مع محافظته على الإخلاص وبين عجبه وريائه وكبره ...
بل الأمثلة في هذا الباب لا تُحصر واستقصاؤها بل عشرها بل عشر معشارها متعذّر ، لكن يقرّب وصف العاميّ في جميعها مثال أختم به وهو كونه = صاحب نظّارة بهيمة (1) أو شاشة قديمة ؛ فهو لا يرى بهما إلّا لونين : أسود أو أبيض ، إمّا خير محض وإمّا شرّ صرف، ولا درجات ، إمّا طاعة وإمّا كفر ، ولا دركات ، إمّا تحصيل الخير الآن (2) وإمّا التّفريط فيه إلى آخر الأبد ، لا مرحليّة ولا تدرّج ولا تتبّع لأسباب الفرج ، إمّا التّواضع إلى حدّ المسكنة وإمّا أن يرى ترك ذلك = كبر ، ولا يفرّق ، إمّا يريد الله المعصية من كلّ وجه وإمّا لا يقدّرها ، ولا تفصيل ولا يُفصّل ... (3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البهيمة أي المظلمة .
(2) فهو في ذلك كالصّبيّ ، ولهذا قال ابْنِ قُدَامَةَ المَقْدِسِيِّ رحمه الله في "روضة النَّاظر" (ص 136) : (وَلأَنَّ العَامِّيَّ ليْسَ لَهُ آلَةُ هذَا الشَّأْنِ، فهو كالصَّبِيِّ في نُقْصَانِ الآلَةِ).
(3) ولهذا قال ابن الجوزي رحمه الله في "صيد الخاطر" ص486 .: ( فأقلّ موجود في الناس = الفهم والغوص في دقائق المعاني).
س / ما هو السّبب الباطن لظاهرة التّعالم ؟
ج / أوّل العلم = معرفة المرء بنفسه؛ فـ " من عرف نفسه فقد عرف ربّه " كما جاء في الأثر (1)، وهذا هو حال من يتأمّل في نفسه؛ فإنّه يتعرّف بذلك على عجزه، ومن ثمّ على قدرة خالقه لما يرى من آثار تلك القدرة في نفسه، وكذا هو يتعرّف على ضعفه وجهله وفقره بمعرفته بقوّة مولاه وعلمه وغناه، فمبدأ الأمر = التّأمّل بخضوع، أو الخضوع للتّأمّل، وأوّل العلم هو = التّواضع ، ومبدأ الجهل هو = الكبر؛ وهذا كما اعترض إبليس فقال : (( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )) مع أنّه لا يجهل في نفسه جهله وكون الله هو أحكم الحاكمين لكنّه يتناسى ذلك لكبره وغلبة هواه ويجحد الحال لحسده وعدم رضاه، فتولّدت لديه بذلك فروع من الجهل كجهله بأنّ آدم خير منه من وجوه يعلمها الله ويجهلها هو، فتجاهله للأصل هو الّذي أوقعه في مجادلته في الفروع بعدما تبيّنت واستيقنتها نفسه، وهذا الّذي صدر منه هو ضدّ صنيع الملائكة لمّا جهلوا فرعًا وهو سرّ استخلاف الله لآدم في الأرض وذلك لمّا قال تعالى : (( إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ))، فكونهم يسبّحون الله ويقدّسون لا يفتُرون ولا يسأمون = أمر صحيح، لكن أقوى منه وأبلغ = كونه تعالى يعلم ما لا يعلمون أيضًا فإنّه = أمرٌ ضروريّ لا يمكن لأحد دفعه عن نفسه لما يعلمه من نقصه هو وكمال الرّبّ ، وجهله هو وعلم الرّبّ، إلّا من يُكابر فيعترض، والملائكة إنّما سألوا ذلك السّؤال على وجه الاسترشاد والاستعلام فهو كسؤال الخليل الّذي قال الله له إثره : (( أولم تؤمن؟ قل بلى ولكن ليطمئنّ قلبي )) فأراه الله من تفاصيل العلم ما لم يكن يعلمه، وكذا فعلت الملائكة لمّا استفهموا خاضعين فأراهم ربّهم فضل علم آدم على علمهم ومن ثَمّ صلاحيّته لعمارة الأرض دونهم؛ وذلك لمّا (( قالوا سبحانك لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنّك أنت العلميم الحكيم : قال يا آدم أنبئهم ... )) فانكشف لهم بذلك سرّ من أسرار الفروع لتواضعهم لما يعلمونه في قرارة أنفسهم من أصل الأصول وهو علمهم بعلم الله وكماله وعلمهم بجهلهم ونقصهم.
وأمّا بنو آدم فمنهم من يسلك في العلم طريق الملائكة ، (( ولكنّ أكثرهم لا يعلمون )) فيسلكون المسلك الأوّل وهو المسلك الّذي سنّه إبليس أوّلا فهو الآن يزيّنه لبني آدم فيستجيب له أكثرهم والعياذ بالله، إذ لولا الكبر لما تعالم أحد ولردّ الجميع العلم إلى عالمه ولكان التّواضع رادّا لأصحابه عن مسلك الكبر فمبصّرًا لهم برتبة أنفسهم في كلّ أمر ومن ذلك مرتبتهم في العلم أو الجهل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا لا أصل له روايةً لكنّه صحيح درايةً، قال النووي في فتاويه : معناه من عرف نفسه بالضعف والافتقار الى الله والعبودية له ، عرف ربه بالقوة والربوبية والكمال المطلق والصفات العلى .
من أعظم التّعالم = تقييم النّاس تقييمًا علميّا مع فقد المعايير العلميّة الّتي بها يُقيّم النّاس علميًا ! فتجد شرّ المتعالمين يدّعي أنّ هذا عالم وهذا ليس بعالم وهذا عالم متكبّر وهذا متواضع وهذا من أهل السّنّة وهذا من أهل البدعة ... إلخ ، دون أن يكون عارفًا بالحقائق الشّرعيّة الدّقيقة لمعنى العلم والجهل والكبر والتّواضع والسّنّة والبدعة ... إلخ، ومن وقع في النّقد والتّقييم بغير علم مجزئ فهو يدّعي ـ فوق ذلك ـ أنّه هو نفسه = عالم أو هو أصلا أعلم من العلماء محلّ تقييمه ـ شعر بذلك أو لم يشعر؛ وذا لأنّه لا يمكن نقد الشّخص علميّا إلّا ممّن هو مثله أو فوقه في العلم أصوليّا، وهو كما يُسند المعلّم للمتعلّم والأستاذ للتّلميذ عددًا لغاية تقييمه فيُعتَدّ بذلك العدد والتّقييم لصدوره من أهله وتعلّقه بمن هم دون أهله ولا يُعتدّ بالعكس كما لو أسند التّلميذ لعلْم الأستاذ عددًا أو نقده بنفسه لأنّ غاية نقد التّلميذ للأستاذ والطّالب للعالم أن يكون على وجه التّقريب والتّخمين لا على وجه يستعمل فيه قواعد الأساتذة ومعايير المعلّمين وأصول أهل الذّكر وعلم الّذين يعلمون ما لا يعلمه المتعلّمون وأسس مَن يدرس التّلاميذ من أجل الوصول إلى رتبتهم العلميّة أصلا! فكيف يمكنهم منذ الآن التّقييم بل التّقييم المقلوب !؟ وإنّما غاية تقيييم التّلاميذ ورأيهم الّذي يُبدونه بأنفسهم أن يكتفوا به في خاصّة أنفسهم دون نشر له ولا تأكيد؛ وهذا كما يكتفي القُصّر بآرائهم الخاصّة في خاصّة أنفسهم ولا يدعون إليها ولا يفرضونها على غيرهم كيف إذا كان الغير = المعلّمين أنفسهم !؟ إذن لانقلبت الموازين وقبلها تعمّ الفوضى العلميّة ويُتحاكم للجهل ويتفاحش التّخليط، لكنّ المتعالم لا يشعر بشيء من ذلك فيجهل ويُكابر ويتناقض فهو يتّهم السّنّّي بالبدعة والكفر ويرمي العالم بالجهل والكبر كلّ ذلك كبرًا وزورًا وهو ـ قبل ذلك ـ يبّرؤ ذاته وينسى نفسه المغرورة !
كيف نناقش متعالمًا ؟
لا تناقشه، ولا تسترسل معه في الكلام في مسألته، وإنّما تبيّن له الأصل وتوضّح له أمّ المسائل وهي = وجوب التّعلّم قبل الخوض فيها وفي غيرها، وذلك أنّك لو استرسلتَ معه فحتّى لو أفحمتَه في تلك المسألة ولم تردّه إلى الأصل فسيبقى متعالمًا في مسائل أخرى خائضًا بغير علم فيما لا ينتهي، هذا إن كنت من العلماء القادرين على الإفحام أصلًا، وإلّا فالأصل أنّك لن تقدر على إفحامه حتّى في مسألته تلك، بل ستقع بردّك عليه في التّعالم أيضًا فتسقط فيما تنعاه عليه ...
يبيّن هذا : أنّ العامّي إذا خاض في مسألة من مسائل الدّين، هو يخوض فيها بغير علم؛ لأنّه ليس ذا أدوات مجزئة تؤهّله للكلام فيها وفي غيرها من المسائل، وإنّما هي فهوم خاصّة يفهمها أو آراء ينقلها عن غيره، وكلا الفهم والنّقل يحتاجان لآلات وأدوات، ولذا يصير العامّيّ الآخر الّذي يخوض معه في تلك المسألة أو في غيرها متعالمًا ولو كان مخالفًا له في نتيجتها ، لأنّ العبرة بالأصول لا بذات النّتائج ، وهو كصاحبه فاقد للأصول ولآلات الاسنتاج بنفسه والاستدلال، فلا يمكنه إذن الرّدّ إلّا بفهم لا يملك آلته أيضًا وإلّا بالنّقل من هنا وهناك.
فبان أنّ الّذي ينبغي للعامّي صاحب الجهل البسيط في ردّه على المتعالم صاحب الجهل المركّب إذن هو = أن يردّه إلى الأصل وما تندرج تحته جميع المسائل بصحّة وانتظام وهو = أمره إيّاه أن يتكلّم في الدّين بأدوات مجزئة تؤهّله للكلام في تلك المسائل وفي غيرها أو أن يمسك عن الكلام في مثل تلك المسائل حتّى يتأهّل لئلّا يقول قبل ذلك على الله ما ليس له به علم ، وأنّ الّذي عليهما هو = تقليد كلّ منهما لمن يثق فيه في خاصّة نفسه دون إلزام بقوله ولا إنكار إلّا في المسائل الظّاهرة الّتي لا يختلف فيها اثنان،؛ ذلك أنّ العامّيّ إنّما يعلم الأمور الظّاهرة كوجوب الصّلاة والصّوم وتحريم الرّبا والخمر ونحو ذلك؛ فيجوز له الكلام في هذه الأمور لأنّ كلّ المسلمين علماء بها، فهم إذا خاضوا فيها فإنّما يخوضون فيها بـ ( علم )؛ لأنّها = أمور معلومة ضرورةَ ولا يسع المسلمين جهلها، وأمّا الأمور الخفيّة الّتي ليست معلومة بالضّرورة وإنّما تُعلم بالنّظر والاستدلال فهذه لا يجوز أن يخوض فيها إلّا أهل النّظر وأصحاب آلة الاستدلال وهم = العلماء، وأمّا سواهم ومن هم دونهم من العوامّ والطّلبة فلهم أن يتكلّموا في هذه على وجه السّؤال والبحث لا على وجه التّخطئة والتّصويب، وإلّا وقعوا في القول على الله بغير علم، ومن ثَمّ في الكذب عليه تعالى لأنّهم يبنون أقوالهم على المصادفة والمحاولة بغير آلة اسنتاج صحيح واجتهاد واستدلال.
0 تعليقات