لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا .
نهي الأئمّة عن التّقليد وأمرهم بالدّوران مع الدّليل هو = متوجّه إلى من كان قادرًا على الاجتهاد ـ وهم العلماء ـ وليس هو إلى من لم يبلغ رتبتهم من العوامّ فإنّه يجب على هؤلاء التّقليد ؛ قال ابن تيمية رحمه الله ـ كما في " (مجموع الفتاوى 20/226) : " وأما مثل مالك والشافعي وسفيان،ومثل إسحاق بن راهوية وأبي عبيد، فقد نص
( يعني: أحمد بن حنبل ) في غير موضع على أنه لا يجوز "للعالم القادر على الاستدلال" أن يقلدهم ... ،
ويأمر "العامي" أن يستفتي إسحاق وأبا عبيد وأبا ثور وأبا مصعب، وينهى "العلماء من أصحابه" كأبي داود وعثمان بن سعيد وإبراهيم الحربي وأبي بكر الأثرم وأبي زرعة وأبي حاتم السجستاني ومسلم وغيرهم أن يقلدوا أحدا من العلماء، ويقول: عليكم بالأصل بالكتاب والسنة " .
(العامّيّ يتّبع جنس الدّليل لا أفراد الأدلّة) بمعنى أنّه يقلّد من يعلم أنّ له دليلا على ما يفتي به ولو لم يعلم هو ذلك الدّليل بعينه فهو إذن يقلّد العلماء لأجل أدلّتهم لا لأجل أشخاصهم، وهذا = اتّباع منه لدليل يجهل ماهيته لكن يعلم جنسه، فإنّه ـ لعدم تمام قدرته على معرفة الدّلالات وطرق الاستدلال ومسالك ذلك وتشعّباته ـ يكون مضطرّا للاكتفاء باعتقاد أنّ المسؤول = عالم له أدلّة على ما قال، فإنّ الدّليل هو المعنى لا مجرّد اللّفظ، والكشف عن المعنى لا يمكن بمجرّد تحصيل معنى دليل واحد جزئيّ حتّى ينتظم في سلك سائر الأدلّة الكلّيّة للشّريعة ولا ينتظم ذلك إلّا بأصول وقواعد وأدوات.
الدّوران مع الدّليل:
العالم هو الّذي يدور مع الدّليل في ذاته، وأمّا العامّيّ فإنّما يدور مع الحكم الّذي يبيّنه له المفتي الّذي يعتقد أنّه يدور مع الدّليل، وهذا لعجز العوامّ عن معرفة وجوه الاستدلال وطرائقه وتشعّباته، فيكون دليلهم هو العالم نفسه لأنّ الله قد راعى عجزهم ذلك فنصب العالم دليلا لهم على الحقّ لحمله الدّليل الدّالّ عليه في ذاته، ولهذا قال تعالى: ((فاسألوا أهل الذكر)) وقال: ((فاسأل به خبيرًا)) وقال : ((لعلمه الذين يستنبطونه منهم)).
وهذا خلافًا لمن منع من التّقليد فسوّى بين العالم والعامّي في وجوب معرفة الجميع للدّليل في ذاته والدّوران معه في نفسه، وحقيقة هذه التّسوية هي قاعدة (هم رجال ونحن رجال) الّتي ذكرها بعض العلماء كأبي حنيفة ولا يصحّ الأخذ بها لعوامّ النّاس ممّن لم يبلغ رتبة العلماء فإنّ أخذ هؤلاء بذلك يُفضي إلى الابتداع وتحريف الدّين، وهذا لأنّهم إذا حاولوا الاستدلال بأنفسهم مع عجزهم ذلك فإنّما يصلون في الغالب إلى أحكام مجانبة للصّواب من أحكام الدّين والفهم الصّحيح له فيتولّد فساد عريض. ولهذا قال ابن تيمية في "قاعدة في المحبّة" ص 132 :
«اجتهاد العامة هو طلبهم للعلم من العلماء بالسؤال والاستفتاء بحسب إمكانهم». وقال الشاطبي في "الموافقات" 5-336 : «فتاوى المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين. و الدليل عليه أنّ وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء. إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئا فليس النظر في الأدلة و الاستنباط من شأنهم و لا يجوز ذلك لهم ألبتة و قد قال تعالى: ((فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)). و المقلد غير عالم فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر و إليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق فهم إذًا القائمون له مقام الشرع و أقوالهم قائمة مقام أقوال الشارع ».
0 تعليقات